
طهل جرب أحدكم مرارة الإحساس الاليم و إنسداد الأفق أمامه ، عندها تخيم عليه لحظات مليئة بروح الإحباط و الهزيمة التي تأتي إلى الإنسان في شكل سيل من الحزن الذي يقوم بتدمير النفس البشرية و يكسر مشاعرها و يفتت عاطفتها جراء ذلك المزيج الناتج من التداخلات العاطفية عن تلك الإحاسيس المزعجة عند إكتشاف العجز لإنقاذ حيوان أليف من الموت ، فما بالك إذا كنت تستقبل مرارة طعم آخر من الحزن الشديد جَرّاء العجز الكلي عند إنقاذ شخص ما لا تعرفه ؟، و ما بالك إذا كان هذا الشخص تربطك به صله و هو عزيز عليك ؟، و كيف يكون حالك إذا كان هذا الشخص هو والدك ؟ .
هل جرب أحدكم الإتصال بالرقم المجاني للإسعاف و لم يجد من يسعفه بالرغم من أنها خدمة مدفوعة الأجر ، و هل جرب أحدكم عند الحاجة الملحة أن يتصل بالنجده (999) فيجاوبه الرد الإكتروني أن الهاتف الذي تحاول الإتصال به لا يمكن الوصول إليه ، لو حكى لي شخصاً هذه القصه لما صدقته ولكن التجربة كانت لي خير دليل وبرهان و كان ذلك في تلك الجمعة التي سبقت جمعة أمس ، صدق او لا تصدق أن هذه هي الحقيقة المرة بدون إضافة أو نقصان ، فماذا سيحدث لك إذا لم تستجيب لك النجدة ، فيمكن أن تكون عدم الإستجابة برغبة موظفي خدمة العملاء ، أو يمكن أن هذا الأمر مفروضاً عليها من قبل إدارتها العليا ، أو من قبل الجهة التي تقوم بتشغيل خدمتها ، فعلي كل حال من الأحوال فهي لن تستجيب لطلب نجدتك وقت حاجتك الملحة إليها من أجل حماية نفسك أو إنقاذك من جريمة ما أو نحوها ، و هل كذلك جرب أحدكم محاولة إنقاذ عزيز من أهله من الموت و حتى إذا توفرت لديه وسيلة النقل و كذلك توفرت المحروقات في ظل إنعدامها التام ، فسوف تطوف على كل المستشفيات الحكومية والخاصة ولن تجد فيها من ينقذ مريضك ، فلا تستغرب من هذه المنتاقضات لأنك تعيش في السودان في ظل حكومة أصابها العمى و وقرت أذانها من السمع و هي تعمل بمبدأ (مكان ما ترسى تمسى) و كما لا تهمها التنائج إذا كانت إيجابية أو سلبية .
خرج جار عزيز من جيراننا من منزله بمحلية بحري من أجل إسعاف والده الذي تعرض لإنفجار قرحة في معدته فطاف به على كل المستشفيات العامة و الخاصة بولاية الخرطوم فلم يجد من يسعفه و كما لم يجد من يسمعه إلى أن إنتهى به الحال إلى الرجوع مرة أخرى إلى بحري حيث يوجد مستشفاها التعليمي الكئيب لينعي لنا من داخل ردهاته عن إنهيار المنظومة الصحية السودانية حيث فارق والده الحياة و هو على مقعد سيارته ، و كان الكادر الطبي حاضراً و لكنه واقفاً متفرجاً وكأنهم يشاهدون في فلم سينمائي و ليس واقعاً معاشاً أمامهم حيث لم تتحرك لذلك قلوبهم أو حتى تمتعض وجهوههم و كأنهم خشب مسندة في الوقت الذي كان فيه الرجل كالذي يتخبطه الشيطان من المس و هو يصرخ ويستنجد بأعلى صوته يريد فقط من أحدهم التقدم خطوة نحو والده من أجل إنقاذه حيث بدأ عنده الأكسجين في الإنخفاض ، و لكن هيهات أن يسمع ندائه من بهم صمم ، فهذا هو حال السودان الآن يمتلئ بمثل هذه المواقف المحزنة والمخزية التي سيسجلها التاريخ عاراً يلازم الموسسات الصحية إلى قيام الساعة ، ولكنه كذلك يعتبر تمرين جيد لقياس إنسانيتنا التي نحدث عنها دائماً في مجالسنا ، فلم يتحرك عليه أحد من الكوادر الطبية ، و لكن تظل بعض المواقف الجميلة من بعض أفراد هذا الشعب ترسم الفرح في وجهونا بالرغم من وجود كثير من مظاهر التعاسة في حياتنا ، حيث هب أحد السودانيين الأشاوس إلى نجدته و هو مرافق لمريض ، فقام بنزع إنبوم الأكسجين من والدته وحمل السلندر إلى حيث تقف السيارة من أجل إنقاذ عمنا و جارنا إلا أنه في تلك اللحظات التي يصعب وصفها قد فارق الحياة شهيداً و معلناً لنا عن إنعدام إنسانية جميع كوادر المنظومة الصحية في الدولة و حوادث مستشفى بحري تكون نموزجاً لذلك ، و معلقاً دمه في عنق وزير الصحة و الحكومة بكامل طاقمها لانها فشلت في توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة ، و كما عجزت عجزاً تاماً في تجنيب النظام الصحي من هذا الإنهيار المريع .
جميع أفراد هذا الشعب قد أُصيبوا بمتلازمة القلب المنكسر و خصوصاً أسرة (جارنا هذا) ، حيث تعتبر من أكثر الأسر التي أصيبت بهذه المتلازمة من كثرة المواقف السالبة التي تعايشوا معها خلال هذا الوقت القصير الذي حاولوا فيه جاهدين إنقاذ والدهم ، و هذا ما يصف الواقع المرير الذي يعيشه أهل السودان في هذه الأيام ، حيث هذه الحالة يصلها الإنسان حينما تتراكم عليه الأحزان والآلام و الآهات ، لأن الشعب قد إستجاب مكرهاً لتأثيرات هذه الأحزان والحسرات القاسية فظهرت عليهم أعراضٌ هذا الإنهزام و الإستسلام ، فأصبح كامل الشعب ينتظر حتفه لا محال و هم يعلمون جيداً أن مصيرهم هو الموت بهكذا صورة لأنهم لا يستطيعون الحصول على العلاج إذا ما تعرضوا إلى أي وعكة صحية تستوجب دخولهم إلى مستشفيات الدولة التي تفتقر إلى كل المقومات التي من شأنها الإسهام في إستمرارية الحياة ، و لهذا وجب على أن أوجه سؤالي و بصوت عالي ذو نبرة حزينة إلى حكومة السودان : لماذا كل مصانع الأكسجين في الدولة يمتلكها أفراد وشركات خاصة ؟ بالرغم من أنها تعتبر من الصناعات المهمة و في نفس الوقت لا تحتاج لرؤوس أموال ضخمة ، فهل يمكن أن تتخيلوا معي أن هنالك مستشفى خاص بالخرطوم جوار مقر شركة سكر كنانة بالرغم من قيامه في بناية سكنية ولكنه يمتلك قراره في تصنيع الأكسجين بواسطة وحدة تنتج ما تلبي حاجته و تفيض حيث يتم بيع الفائض في السوق ، و مستشفي الشعب هو الذي كان أولى من غيره بمثل هذه الوحدات التي تنتج الأكسجين إلا أنه يقوم بتوفيره من الشركات الخاصة ، و هكذا حال كل مستشفيات الدولة التي يمكن أن تمتلك مثل هذه الوحدات المنتجة التي تغطي بها حاجتها وما فاض عنها يكون لها إستثماراً تستفيد منه في تغطية بقية منصرفاتها ، و مع العلم أن أسعار هذه الوحدات يعتبر (فتات) مال حيث يتراوح سعر الوحدة الواحدة ما بين 10 ألف الى 170 ألف دولار حسب الأحجام و سعة الإنتاج و هذا ما يوازي تكلفة نثريات سفر أصغر وفد حكومي إلى الخارج ، فهل علمتم بحجم الكارثة و المعاناة التي يقوم بدفع فاتورتها الشعب و حجم البخل وشح الأنفس في إستجلاب المعينات و الأسباب التي تساعد في إستمرارية الحياة .. و بالرغم من ذلك فأن معظم السودانيين يبدون و كأنهم عاطفيين بشكل مفرط ، فهل يمكن أن نوظف هذه العاصفة في توفير مثل هذه المبالغ البسيطة من أجل إنقاذ أنفسنا عند الحاجة لذلك ؟ .